الزملاء الأعضاء ...... تحية طيبة
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الإسراء :
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا
بحثت كثيراً في الفكر الإسلامي عن كتاب أو فتوى تتطرق لمسألة الخلود في النار بإسهاب وعن عدالة هذا الخلود ، وبعد بحث لم أجد للأسف إلا رواية شيعيّة منسوبة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق ، وبعض المرويات التي تتحدث عن حسن الظن بالله في كتب السنة ، وأنا هنا لا أستبعد وجود روايات غير ما سأذكر ولكن حسبي أنني حاولت ولم أجد ..... فلعل الزملاء يتحفونا بما لديهم.
حسناً نكمل :
بالعودة إلى الآية السابقة نجد أن الله قد ذكر فيها عطاءاً دنيوياً ونسب هذا العطاء إلى مقام ربوبيته ، وهذا العطاء فيضٌ رباني يتقاسمه البشر بشتى صنوفهم فلا فرق بين مؤمنهم وملحدهم فكلهم سواسية أمام هذا العطاء لأنه فيضٌ جارٍ من مقام الربوبيّة للخالق عز وجل ويبقى للبشر مهمة العمل للحصول عليه مستوفياً أو منقوصاً فالأرض تنبت للمؤمن والملحد على السواء والسماء تمطر عليهما معاً دون تفريق وكنوز الأرض ومقدرات الحياة وعلوم الطبيعة كلها مذللّه ومطواعة لإرادتهما حتى الصحة والراحة النفسيّة ، ولكن هناك من يعمل بكد متسلحاً بالعلم والعمل وهناك من يتكاسل وكأن على رؤوسهم الطير.
وقد نجد عطاء الربوبيّة للملحد وللدول التي يغلب على أهلها الإلحاد أكبر وأشمل وأعم ممّا لدى دول الإسلام والمسلمين وهذا لا يتعارض مع عدل الله ، بل كلٌ يأخذ نصيب إجتهاده من هذه العطايا الربوبيّة ، وما كان عطاء ربك محظورا.
ولكن هناك عطاء أعظم من هذا العطاء الدنيوي يأخذه المؤمنون جزاءاً حسابا ، وهو عطاء يفيض على جميع أهل الجنة ، فإن كانت عطايا الربوبيّة غير محظورة كونها شاملة لأهل الدنيا وكلٌ يأخذ منها على قدر عمله دون تفريق ، فإننا في المقام المقابل أمام عطايا الآخرة وهي عطايا محظورة على الملحدين غير مجذوذة عن المؤمنين وترتقي هذه الأعطية بالنوع والكم من مقام الربوبيّة إلى مقام الألوهية.
فتخيل شخصاً في الدنيا يملك علماً ومالاً وجاهاً وجمالاً وملكاً وصحة وووو ... إلخ ، أي أنه أستوفى عطايا الربوبيّة لأقصى حد ، فإنه في هذا المقام لا يتساوى ولا على وجه التقريب مع أقل أهل الجنة درجة من أولئك المنعمين في عطايا الألوهيّة.
الآن نأتي إلى صلب الموضوع للحديث عن حكمة وعدالة الخلود للملحد
عَنْ الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) أنَّهُ قَالَ : " إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ لِأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا اللَّهَ أَبَداً ، وَ إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ أَبَداً ، فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلَاءِ وَ هَؤُلَاءِ ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى : ? قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (كتاب الكافي للكليني).
هنا نجد أن الإمام جعفر قد جعل الخلود في النار مرتبطاً بالنيّة وأرى أنه قد أصاب نصف الحقيقة من جهة ما ، بينما النصف الآخر نجده في حكمة خلق الموت وفي إنقطاع الأسباب ، فإن أدركناها ووعيناها سنجد أن خلود الملحد في النار هوَ جزاءه العادل ولهذا أستميح القرّاء عذراً للإسهاب في هذه الجزئيّة.
((الموت))
يقول الدكتور مصطفى محمود (رحمة الله عليه) في كتابه لغز الحياة :
إننا نولد صغاراً ، ثم ننمو مع العمر حتى نصبح شباباً ثم نكبر ، ثم يدب فينا الهرم وتدركنا الشيخوخة ونموت .... هذا حالنا وحال ما نرى حولنا من أحياء ، دورة حتميّة تبدأ نامية رابحة يكللها النجاح ثم تنتهي خاسرة فاشلة ، ثم يختم عليها الموت بخاتمه الأزلي.
ولكن الحياة حينما بدأت على الأرض منذ 3000 مليون عام لم يكن هذا شأنها ، لقد بدأت بمخلوق هو في الحقيقة مجرد خلية واحدة تسبح في المستنقعات ، ولم يعرف هذا المخلوق الموت كما نعرفه.
كان الموت لا يدركه إلا بحادثة خارجيّة ، يجف المستنقع أو يلتهمه مخلوق آخر أكبر منه أو تنزل عليه صاعقة ، أما أن يموت كما نموت بلا حادث وبرغم وفرة الطعام ورخاء الظروف في أخريات العمر ، أن يدب فيه الموت من داخله ويشيخ مثلنا... لم يكن هذا ليحدث ، كان مسلحاً ضد الموت الخبيث من الداخل ، كانت دورة حياته غريبة ، وما يحدث له مع تقدم العمر عكس ما يحدث لنا ، فهو ينمو وينمو ويكبر لا ليسلمه الكبر إلى الشيخوخة وإنما ليسلمه إلى طفولة جديدة ، فينقسم عندما يبلغ غاية نموه كما تنقسم العصا إلى نصفين ويصبح مخلوقين كلاً منهما طفل في أول مراحل نموه من جديد ، ثم يعود الإثنان فيصبحان أربعة ثم ثمانية ثم ستة عشر ثم إثنين وثلاثين ثم أربعة وستين في إطراد حسابي بلا موت (وما زال هذا حال الميكروبات في إنقسامها وتكاثرها إلى الآن )
وقد رأينا هذه الخلية تقوم بجميع وظائف الحياة ، جزء منها يتحور على شكل سوط أو أهداب ويقوم بالحركة وجزء آخر يتحور على شكل تجويف معوي ويقوم بإلتقاط الطعام وهضمه وفقاعة داخلية وسط السائل الخلوي الحي تقوم بدور الكلية فتطرد الماء الزائد عن الحاجة.
وظلت هذه التحورات ترتقي في الشكل والقدرة مع الإحتفاظ طول الوقت بوحدويتها وحياتها المستمرة في عزلة عن الآخرين.
ثم بدأت الخلايا المتفرقة تتجمع في شلل وفرق وعائلات ، ثم بدأت الشلل ترتبط وتتلاصق وتتحول إلى نسيج متعدد الخلايا ثم بدأت ظاهرة جديدة تظهر في هذا الكائن المتعدد الخلايا هي ظاهرة التخصص ، مجموعة خلايا تختص بالحركة ومجموعة تختص بالإخراج ومجموعة تختص بالهضم.
ثم حدثت الخطيئة الكبرى حينما طور الكائن الحي له عضواً خاصاً بالتناسل وخلايا خاصة في التناسل ، فقد كان معنى هذا أن الكائن نفسه قد أصبح منذ تلك اللحظة كائناً مؤقتاً ، الحاجة إليه مؤقتة.
أصبح مجرد حامل للبذور، مجرد وسيط يحمل الحيوانات المنوية والبويضات ، إذا قام بنقلها وغرسها في عملية التلقيح إنتهى دوره وأصبح فائضاً عن الحاجة وضيفاً ثقيلاً لا لزوم له يأكل ويشرب بدون وظيفة ، فقد إنتقلت الحياة إلى جيل جديد وحدث التكاثر بالفعل عن طريق الخلايا االتناسلية التي قام بتوصيلها ولم يعد هناك داع لإستمرار وجوده.
منذ هذا التاريخ بدأ الموت يغتال هذه الكائنات المتخصصة الراقية من داخلها ، فيصيبها الشيخوخة والذبول والفناء.
ويحدث احياناً ان نرى هذا المصير بطريقة دراميّة ، فنشاهد في حشرة مثل (ذبابة مايو ) أطوار النمو تستغرق عدة سنوات حتى تصل الحشرة إلى طور البلوغ ، ولا تكاد تبلغ حتى تموت بعد يوم من بلوغها ميتة دراميّة بعد التلقيح مباشرة ( في ليلة زفافها ) ... إنتهى كلامه
إلى أين أريد ان أصل من نقلي لكلام الدكتور مصطفى محمود
ما أريد الوصول إليه هوَ أن الموت كما نعرفه عبارة عن حادث طارئ وليس من أساسيات الحياة القائمة على الديمومة مادامت الظروف ويعضد هذا قول الحق سبحانه وتعالى ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
فالحق في الآية السابقة جعل إخراج الحي من الميت في الفعل (المضارع) بينما جعل إخراج الميت من الحي (إسم فاعل) وهذا عين ما تحدث عنه الدكتور مصطفى محمود عن ظهور الموت وإغتياله للكائنات ، إننا لو قرأنا آيات القرآن سنجد أن الموت يذكر قبل الحياة وهذا فيه دلالة على أن الموت هوَ من ميّز الحياة كما ميّزت الظلمة قناديل النور فالموت بناءاً عليه من أعطيات الربوبيّة المكتوبة على الجميع مؤمناً كان أم ملحد فالموت رغم بشاعته إلا أنه رحمة ، فلتفكر بهذا ملياً.
((إنقطاع الأسباب))
إن الحياة الأخرويّة لهي تجسيد حقيقي لأماني الملحد الدنيوية
فالملحد يعيش في هذه الدنيا متمتعاً بأعطيات من يكفر بوجوده وبهذا فهو ليس ملحداً خالصاً لأنه يقبل بهذه الأعطيات طواعيةً ، وهو لا يدري بأن من سهلها له هوَ الله الذي يكفر به ، بينما في الآخرة فإنه سيعيش حياة الإلحاد الحقيقيّة بعيداً عن الله كما كان يتمنى في الدنيا أو كما كان ظنه بالله فيها ، سيُجرب الحياة دون رب وإله ، هناك لن يجد من يسنّ له قوانين طبيعية تكون مطواعة له ، فلا السماء تمطر ولا الأرض تنبت ، فالنار هي تجسيد الغياب ( فقد نسوا الله في الدنيا فنسيهم ) وهذه هي مرحلة إنقطاع الأسباب وغياب الرب وفناء الأعطيات.
الغريب في الأمر أن الملحد سيعيش غير مدرك لهذه الحقيقة فينادي الله ويطلب العفو تارة ، وتارة أخرى يصب جام غضبه على من أغواه وكأن لهذا الفعل ميزاناً قد يأخذه الله بعين الحسبان.
ولكن هذا الأمر لن يستمر طويلاً عندما تذهب السكرة وتأتي الفكرة ، فنجد تجسيد هذا الأنهزام في الآية 77 من سورة الزخرف التي يتحدث الله فيها على لسان الملحدين :
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ)
هنا نجد أنهم أدركوا غياب الله وأنهم يعيشون حياة الإلحاد فنجدهم يوجهون خطابهم إلى مالك علّه يفيدهم ، وبإمكانك عزيزي القارئ أن تميّز إدراكهم لإنقطاع الرب عنهم في هذه الآية بوضوح تام عندما تقرأ صيغة الخطاب الذي يستخدمونه ، فهم لم يقولوا لمالك فليقضي علينا ربنا ، لأنهم لمسوا حقيقة أن لا رب لهم اليوم وعليهم العيش بهذه الحقيقة وهذه الأمنية التي تمنوها ، بل قالوا فليقضي علينا ربك يا مالك....
الأمر الآخر الذي يدعو للرثاء لحالهم أنهم لم يطلبوا من الرب أعطياته الربوبيّة التي ألفوها وإستحسنوها في الدنيا وما أكثرها بل للأسف نجدهم يطلبون أبشع تلك الأعطيات وهي الموت ولكن هيهات أن تكون ، فليس هناك من رب ليخرج لهم الموت فعليهم أن يخرجوه لأنفسهم.
صدق الحق حينما قال (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)
فأين الظلم معاشر الإلحاد إن أعطاكم الله الحياة التي أردتموها حينما غرتكم الأماني في الدنيا ، فحقق لكم أمانيكم؟
أين الظلم إن ترككم تعيشون بدونه فنسيكم كما نسيتموه في الدنيا؟
أين المشكلة في الخلود إن كان الموت من صنع الله وقد سحب منكم ما يخصه فأصبحتم بذلك خالدين؟
أن كان الملحد يتخذ من الكون رباً ومولى له وخالقاً في الدنيا كما نقرأ في المنتدى فإنه سيعيش في الآخرة في النار لتكون له رباً ومولى , فليطلب منها علمها الطبيعي حينذاك لعله يغيّر الحال (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )
.... أين الظلم أين؟ ...
((بقي في جعبتي أمرٌ صغير قد يكون كما تصورته أو قد لا يكون والعلم عند الله))
تقوم المادية الجدلية في فلسفة ماركس على قوانين الدياليكتيك ، ما يهمني فيها هوَ قانون وحدة صراع المتناقضات
يقضي التفكير الجدلي بان المتناقضات التي تؤثر في بعضها تكون في دائرة واحدة وبان المتناقضات تكون في وحدة واحدة ، دعونا هنا من طبيعة القانون المادية ولنتحدث بشكل عام , فهل سنعيش صراع المتناقضات من طرف واحد في الآخرة ؟ ... دعونا نرى
إن الجنة والنار في الفكر القرآني ليستا منفصلتين في كيانين مختلفين ، بل موجودان في مكان واحد كدائرتين إحداهما في داخل الأخرى مكونين بذلك الوجود الأخروي
يقول الحق سبحانه (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) فكل البشر ستسير من دائرة النار الظاهرة إلى دائرة الجنة الباطنة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) ونقرأ أيضاً (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ)
وهنا أقول ، قد - وأكررها - قد يكون لخلود الملحد في النار علاقة بخلود المؤمن في الجنة لأن فناء النار يعني بالضرورة فناء النعيم في الجنة لأنها - أي الجنة - ستتحول إلى ضم النقيضين بشكل مباشر .... ربما والله أعلم
بالنهاية أقول للملحد ( مبروك عليك تحقيق الأماني فأنت مقدم على عالم بلا إله وبلا رب ، عالم إلحادي محض ... يا بختك يا عم )
وأقول للمؤمنين ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )