في عصر الظلمة ، في قلب فرنسا ، وفي إحدى ردهات كاثيدرائيّة أوتون ( Autun Cathedral ) ، دار هذا الحوار بين أسقفين من الأساقفة .. ( حوار تخيّلي )
" لا " ... قالها الأسقف في وجه الآخر ، صارخاً وقد تورمت عروق أوداجه ، قالها بحرقة وألم ، بعد أن تملكته الغيره وهو يرى إنهيار الثقافة المسيحيّة التي أطبقت على كل أوروبا في عصر الظلمة مقابل ثقافة الجنوب القادمة بقوة.
" يجب أن نقف في وجهها مهما كلفنا الأمر أسمعت يا ديموند ، يجب علينا فعل شيء ...... يجب يججججب " رددها وهو يضرب بقبضة يده على الطاولة حتى كاد أن يسقط كأس الخمر.
" يجب أن نقف في وجهها مهما كلفنا الأمر أسمعت يا ديموند ، يجب علينا فعل شيء ...... يجب يججججب " رددها وهو يضرب بقبضة يده على الطاولة حتى كاد أن يسقط كأس الخمر.
رد عليه الأسقف الآخر بنفس الحدّة والغبن :
" إنها خطة دنيئة من عرب الأندلس ، بل هي مؤامرة خفيّة تحاك ضد مجتمعنا المسيحي من الشرق ككل "
تناول الأسقف الأول كأس النبيذ وأمسكه بيديه المرتعشتين وأخذ منه رشفة إبتلعها بصعوبة برزت بسببها أعصاب رقبته ، ثم قال :
" يا ديموند ، علينا بالتحرك فوراً للتصدي لهذا الغزو الثقافي الذي يهدد مجتمعنا المسيحي ذو الخصوصيّة البالغة ... ولكن كيف ، اللعنة كيف " وضرب كأس الخمر بيده ليرتطم بالحائط ويتكسر .
هنا شعر ديموند بأن الأمر جلل وأن الغزو الثقافي العربي القادم من قرطبة وبغداد أشد فتكاً من سيوفهم ، فاستجمع قواه وأخذ نفساً عميقاً وقال :
" أوغسطين ، هدئ من روعك يا عزيزي فعقول المسيحيين بأيدينا ، نحن بحاجة إلى حملة لتشويه الثقافة القادمة إلينا ، تقام في كل قداس مسيحي بطول أوروبا وعرضها ، نقول لهم فيها أن هذه الثقافة ضد إرادة الرب ، وأنها تضرب صميم العقيدة المسيحيّة ، وأنها مؤامرة من الأعداء نحو شبابنا وبناتنا لمسخ هويتهم المسيحية ، ولإبعادهم عن الكنيسة وعلوم الكنيسة ، إنها محاولة خسيسة بقيادة بعض أشباه المسيحيين الذين يؤازرون العرب ويمدحون حضارتهم "
هنا لمعت نجمة بعين أوغسطين اليسرى وهز رأسه بالموافقة قائلاً بصوت أجش :
" نعم ديموند ، ولكن نحتاج قبلاً إلى تسمية لهذه الحملة ، ....... نعم سنسميها حتى تنتشر ..... ، ولكن ماذا سنسميها ؟ ، امممم نعم وجدتها (التـــ شــــر يــــــق) .. ما رأيك ديموند؟ " ... سأله بخبث.
فرد ديموند :
" نعم (حملات مناهضة التشريق) القادم من الشرق العربي ، هي كذلك فعلاً " .... إنتهى المشهد
بقيت اوروبا بقيادة رجال الدين المسيحي تقاوم الثقافة العربيّة التي كانت تتزعم العالم حينها بحضارتها وثقافتها وبعلومها فكان أن بقيت في عصور الظلام لقرون من الزمن ، وتأخّر تبعاً لذلك عصر نهضتها ، حتى برز رجال حطموا قيود الكهنوت المسيحي وأظهروا سوءاتهم ومن ثم حرروها وبدؤوا في البناء على أسس الثقافة العربية .
المستشرقة الألمانية (زغريد هونكه) في كتابها (شمس العرب تشرق على الغرب) تقدم لنا صورة عن تأثر الشباب الأوروبي بالمد الثقافي العربي الأندلسي على لسان ألفارو أسقف قرطبة حيث نقرأ :
إن مصطلح (التغريب) مصطلح دخيل مثله مثل غيره من المصطلحات ، إستخدمه رجال الدين لترهيب الناس من الشر المحدق بهويتهم الثقافيّة والإجتماعيّة حسب وجهة نظرهم القاصرة ، وعندما نربط هذا المصطلح بفكرة المؤامرة فسيكون له حينها مفعولاً تخديرياً قوياً يفوق تأثير الأفيون وخصوصاً لشعوب أصبغت وجوه وعقول من يروجون لذلك بهالة من القداسة والرهبانيّة فتكون كل كلمة ينطقونها هي الحق الواضح الذي لا مراء فيه حتى وإن لم يكن لها وجود.
إن التغريب ليس مؤامرة ولا هم يحزنون ولا يستحق كل هذا التهويل عبر كل المنابر الدينية ، بل هوَ مسار طبيعي لسنة أرضيّة لا تقبل التغيير ، ولو حاول رجال الدين بكل ما اؤتوا من قوة أن يقفوا في وجه أمواجه التسوناميّة فإن مصيرهم الغرق لا محالة.
مالا يعلمه الفقهاء ( حسبي الله عليهم ) هو أن فرض الثقافة وطبائع الحياة يمكن ان تملكه أي دولة في العالم لديها القوة والمال وتحمل مفاتيح العلم ولها كاريزما جاذبة ، فإن تحقق لها كل ذلك فإن ثقافتها وأساليب حياتها لا تحتاج إلى مؤامرات أو خطط باطنية حتى تـُفرض فرضاً على الغير كما يزعمون ، بل إن بقيّة الشعوب وخصوصاً إن كانت واهنة كحالنا هي من تستقبل تلك الثقافة (((طواعيّة))) ويقومون بإستيرادها لأنها أثبتت بكل بساطة أنها الأفضل والأحسن في مقابل ثقافتهم السائدة والقائمة على الدجل والكسل والكبت والقمع والترهيب.. إلخ ، والتي أثبتت فشلها الذريع.
هناك حديث منسوب للرسول يستخدمه دعاة الترهيب من التغريب ، والحديث إن صح عن الرسول عليه السلام (والله أعلم ) فإنه يدينهم بشكل مباشر، أعيدها بشكل مبااااااشر
عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!!
فيالسخرية القدر ففقهاؤنا يسيرون على سنن من كانوا قبلهم من علماء أوروبا حفظهم الله ولم يخالفوهم مقدار خردلة في طريقة قمعهم للمجتمع وتشكيكهم في علوم المخالفين وتجييشهم الدهماء للتصدي لكل محاولة للتغيير حتى تصل إلى أعلى مداها في نصب محاكم التفتيش.
إن المتأمل في حديث الرسول بعقل واعٍ لابد وأن يصطدم بخطاب الحديث الذي يستخدم صيغة الماضي في قوله ( من كان قبلكم ) وإستخدامه للفظة (سنن) بدل قوله ( لتتبعن اليهود والنصارى شبراً بشبر .... ) ومن هذا الباب فمن الحماقة بل من أشد الحماقة أن يحاول المشائخ إختزال المعنى في أمور تافهة وحقيرة كشرب البيبسي ولبس الجينز وتقليد الموسيقى الغربيّة والكدش وطيحني وسامحني .. إلى آخر هذا الموال النشاز الخارج من عقولهم التعيسة ، فهل شرب البيبسي من سنن الحياة ؟ ، هل لبس الجينز كذلك ؟ ، ماذا عن البقيّة يا أصحاب العقول ؟ ، إن لفظة سنن تطلق عادة على أمور تعد من الأساسيات التي لا تتغير أبداً وليس من الفرعيات ولهذا يقول الحق في محكم التنزيل (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) بينما مظاهر الحياة في الغرب متغيّرة دائماً وليست سنة لا تتبدل ولا تتغير حتى يمكننا أن نبني عليها معنى الحديث.
للخروج بمعنى آخر متسق ومتوافق مع الواقع فيجب علينا أن نعرف لمن يتجه هذا الخطاب تحديداً ، وماهي تلك السنن التي لم تتبدل منذ الخلافة الأولى وحتى عصرنا الحالي ولعصور لاحقة !!!! ، إننا مهما حاولنا فإننا لن نجد أمامنا إلا سنة أرضيّة قائمة بشكل دائم وهي إختطاف الخطاب الإلهي العام من بين أيدي الشعوب ومصادرتها للخاصة فقط ومن ثم إستخدام هذا الخطاب بعد مزجه ببعض الإيديولوجيا المفبركة و التي تخدم مصالحهم وإعادة تصديرها كأنها خطاب الله ، وهذا عين ما فعلته المسيحيّة بأوروبا وهو ذات الفعل الذي يفعله حبائبنا حالياً ، إفتحوا أي كتاب يتحدث عن أوروبا في العصور الوسطى وقوموا بمقارنة مخرجات تلك العصور مع مخرجات عصرنا وستجدون تطابقاً مذهلاً لنفس السنن القديمة التي ساروا عليها وأظلمت بسببها عصورهم ، لدي امثلة كثيرة ولكن سأترك لكم مهمة البحث والمقارنة عندما تقرؤون تاريخ أوروبا في ذروة تسلط المجلس الكنسي ومحاكم التفتيش لتروا بأم أعينكم ولتشهدوا بأننا نسير على سننهم شبراً بشبر وذراعاًَ بذراع ، وما نراه اليوم من إنتشار للجهل والتصديق بالسحر والمداواة بالرقية والالتجاء للكهنوت في كل صغيرة وكبيرة من قضايانا ماهي إلا صورة منسوخة عن أوروبا المظلمة ولولا وسائل التقنية الحديثة في عصرنا والتي خففت كثيراً من وطئة التخلف لقطعت رؤوس كثيرة وشردت أقلام وعقول أكثر ولأحرقت كل كتب العلم التي تخالف ظاهر القرآن والسنة حسب فهمهم ( رغم أنه حصل ويحصل بصورة أو بأخرى ) ولقامت محاكم التفتيش حول كل المساجد.
أستحلف اي شخص يملك ولو ذرة من عقل أن يشاهد هذا الفيديو وليضعنا في العصر الذي نمثله ( الـ 21 أم الـ 10 )
http://www.youtube.com/watch?v=gQ-pwfw90v8
وبعد هذا التوضيح نرى أن معنى الحديث ينقلب فينطبق عليهم ، لا بارك الله فيهم .
إن محاولاتهم في الوقوف ضد التيار يشابه تماماً تلك المحاولات التي إتبعتها الكنيسة في صد المد الثقافي المختلف ، وطالما أن الكنيسة سقطت في النهاية فسقوطهم عندنا قادم لا محالة لأنها سنة لن تتغير ولابد أن يمر بها المسلمون مثلهم مثل من سبقوهم.
بقية جزئية بسيطة أنقلها من قلم الدكتورة جازية فرقاني في الفارق بين التغريب والإغتراب :
فالتغريب من الناحية اللغوية مصدر بوزن (التفعيل) من صيغة (فعّل)، وهو مأخوذ من مادة (غ ـ ر ـ ب)، ورد في اللسان «غرب فلان: بعد» مصدره الغرب، و«الغرب الذهاب والتنحّي عن الناس، وقد غرب يغرب غرباً، وغرّب وأغرب، وغرّبه، وأغربه: نحّاه» فاتضح من ذلك أنه بالتضعيف صار الفعل (غرّب) على وزن (فعّل) وهذه الصيغة تدل على التعدية ، وعلى التكثير والمبالغة والدلالتان مجتمعتان في (غرّب).
فالتعدية تتضح في نقل الفعل من اللزوم، في استعمالهم (غرب فلان: بعد)، إلى التعدّي بقولهم، غرّبه، بمعنى أن المغرّب حمله المغرب على الابتعاد، والمبالغة والتكثير تتضح في أن المغرب حمل على البعد أو الابتعاد دون إرادته، وهذا يتوافق وما يؤدي إليه الحديث حيث ورد في اللسان «أن النبي (، أمر بتغريب الزاني سنة إذا لم يحصن، وهو نفيه من بلده»
أما الاغتراب فهو بوزن (الافتعال) من صيغة (افتعل) وهو مأخوذ من مادة (غ، ر، ب) ومعناها السالف الذكر، (فاغترب) فعل لازم، بقولنا، اغترب فلان، فهو وفقاً لمكونات التركيب النحويّ، المغترب هو الفاعل (النحوي)، لكن من حيث البناء المعنويّ الفاعل الحقيقي الحامل للمغترب على الاغتراب هو ما طرأ أو يطرأ من حوادث أو عوامل تجعله يعيش في غربة أو يعيش في حالة الاغتراب، وعليه فالفاعل الحقيقي في (اغترب) ليس هو الفاعل النحوي.
يبدو واضحاً مما سبق أن هذه النتيجة تربطنا مباشرة بالمعنى الاصطلاحي للاغتراب مهما تعددت أنواعه واختلفت، فالمجتمع بظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية المسؤول الأول عن حدوث هذا الاغتراب فقد «يكون هناك انفصال بين المنفصل والمجتمع الذي يعيش فيه، أو بين المنفصل وذاته، وقد يكون هناك أيضاً انفصال بين المنفصل والأفكار السائدة نتيجة النوقض التي تشوب مجتمعه وواقعه».
يعني حتى في إنتقاء مصطلحاتهم نجدهم فاشلون وبشدة ، فنجدهم يختارون إسم التغريبيون لتسمية تيار الإغتراب بدل الإغترابيون !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق